لا شك أن ما شهدته الأيام الأخيرة من تطورات للأوضاع في عمران وسقوط المدينة وموقع اللواء 310 بيد الحوثيين لا بد أن يكون له ما بعده، ويمكن قراءة الموضوع من أوجه عدة بعيدا عن الإشادة والإدانة التي في مثل هذه المواقف لا تعبر إلا عن العواطف والانفعالات اللحظية دون تناول المشكلة بأبعادها وعمقها وأسبابها وحيثياتها.
في العام 2004م عندما اندلعت أحداث مران وكان عدد المقاتلين الحوثيين بالعشرات، وإن تجاوزها فإلى ما فوق المائة بقليل كان كاتب هذه السطور وبرلمانيون قلائل ممن رفضوا الحرب وطالبوا بوقفها قبل أن تتحول إلى كارثة وطنية، يومها اتهمنا بالانتماء إلى جماعة الحوثي الذين لم نكن قد عرفنا هويتهم ولا من هم، لكننا كنا نرفض الحرب كمبدأ وكوسيلة لحل الاختلافات
ومما أتذكره أن رشاد العليمي وعلي الآنسي (الأول كان نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية ورئيس اللجنة الأمنية والثاني كان رئيس جهاز الأمن القومي ومدير مكتب رئيس الجمهورية، وللمفارقة كان رئيسا للجنة حقوق الإنسان الحكومية! َ! ! !) كانا يحضران إلى مجلس النواب ليقولا للنواب أن هؤلاء (الحوثيين) ليسوا سوى شرذمة ونبتة شيطانية وشجرة جهنمية يجب اجتثاثها، وكان معظم النواب يقفون مشدوهين من هذه الصور البلاغية المدهشة، لكنهم لم يتساءلوا عما ستؤول إليه الأحوال، بل إن نائبين برلمانيين من صعدة قد أسندت إليها مهمة المطالبة بشن الحرب التي لا تعرف الهوادة على جماعة الحوثي واجتثاثها، وهو ما جعل البرلمان يمنح تفويضا مطلقا للحكومة بالتصرف بما تراه مناسبا لـ"اجتثاث" جماعة الحوثي.
القصة قد تطول لكن تطورات الأحداث اجتثت الكثير من طريق سيلها الجارف ولم تجتث جماعة الحوثي بل منحتها الكثير من الفرص للتوغل أكثر في المشهد السياسي والأمني والعسكري اليمني، وأسباب هذا كثيرة سيستدعي استكشافها وقفة خاصة، لكن ما نحن بصدده هو كيف سقطت عمران، وممن سقطت وماذا بعد سقوط عمران؟
إن المشهد فيه الكثير من التعقيد، فالتباكي على غياب الدولة أو حياديتها، يأتي وكأن الدولة كانت حاضرة قبل ذلك، والذين يقولون بهذا يتناسون أن الدولة غائبة في كل مكان في اليمن وليس في عمران وحدها.
الذين ينتقدون الرئيس هادي ووزير دفاعه ويتهمونهم بالتواطؤ أو التقصير في مواجهة الحوثيين، يعتقدون أن في اليمن جيشا يخضع لوزير الدفاع، وأن أوامر الرئيس مسموعة وتنفذ حرفيا بمجرد صدورها، ولا يعلمون أن الجيش اليمني هو مجرد هيكل عظمي بلا لحم ولا دم ولا جهاز عصبي مركزي، وأن القوى المكونة لهذا الجيش ما تزال تأتمر بأوامر قادة من المفترض أنهم خارج السلطة، من سفير اليمن في الإمارات إلى أبيه إلى مستشاري رئيس الجمهورية وأن وزير الدفاع مجرد مدير للشئون المالية والإدارية لهذه (الجيوش)، وأن آخر من يمكن أن تنفذ أوامرهما هما رئيس الجمهورية ووزير دفاعه، الذين ينظر البعض إليهما على أنهما ضيفان ينبغي أن يحترما أصول الضيافة ولا يخالفا طقوسها.
الطبقة السياسية في اليمن تجد نفسها خارج اللعبة لأنها تعتبر الصراع بين مراكز قوى متصارعة على مصالح وكل منها تغلف مصالحها بحماية الوطن والمواطنين والدفاع عن المظلومين، وحماية الدين والشريعة الإسلامية، وكلا الطرفين المتقاتلين يدافعان عن نفس الدين الذي يدعو إلى نفس الإله، وكل منهم يعتقد أن الله له وحده، وليس للآخر به نصيب.
سيكون على المحللين والسياسيين التساؤل، لماذا تخلت حاشد عن قادتها ولماذا انحاز جزء كبير من قادتها ومشائخها ومواطنيها إلى الحوثيين وخذلوا زعماءهم القبليين الذين هم الطرف الرئيسي في مواجهة الحوثيين.
تبعد عمران (المدينة) عن صنعاء حوالي 90 كم وهذه المسافة يمكن أن تقطع في ساعة بالسيارة، ويعتقد بعض المحللين أن الخطوة القادمة للحوثيين هي صنعاء، وهم عمليا حاضرون فيها لكنهم قد لا يبدون مستعجلين على السيطرة عليها، أما لماذا فهذا سؤال يمكن بحثه في سياق آخر، لكن سيكون من المهم إدراك أن المنتصر ليس مجرد فائز على الطرف المهزوم بل مسئول عن أيلولة الأحداث ما بعد النصر والنصر هو مسئولية ومسئولية كبيرة لمن اعتبر وليس مجرد سحق للطرف المهزوم واعتلاء منصة التتويج.
العد التصاعدي يسير بصاحبه باتجاه القمة، لكن ما بعد القمة يبدأ العد التنازلي، والحوثيون الذين يصورهم البعض على إنه قوة صاعدة وفتية يمتلكون الكثير من عوامل التفوق وتسجيل نقاط جديدة في المعادلة السياسية، لكنهم إذا ما أصروا على نظرية الاصطفاء والتميز العرقي، وادعاء التمسك بـ"المسيرة القرآنية"، ومواصلة القتال والقتل، وإصرارهم على إنهم لا يمثلون إلا مجموعة منتقاة من اليمنيين وعلى بقية اليمنيين الخضوع لهم، إذا ما أصروا على ذلك ورفضوا مشروع دولة المواطنة التي تقوم على التعايش والتسامح واحترام التنوع، الدولة التي لا تميز بين الأعراق والأجناس والمعتقدات والألوان والجهات، واعتبروا أنفسهم أو زعماءهم مجموعة مميزة عن سائر البشر فمهما كانت الانتصارات التي سيحققونها، فإنهم سيجدون أنفسهم في مواجهة الشعب تماما مثلما جرى مع أسلافهم، أما الطرف أو الأطراف المهزومة في عمران، والذين سبق وإن انهزموا في مواقع أخرى فإن عليهم أن يفتشوا في ملفاتهم عن سبب تفوق (الشرذمة) على الجحافل والفيالق التي لم تتوقف عن الحروب منذ 1962م
يبدو أن عمران لن تكون آخر المعارك، وأن الآفاق مفتوحة على أكثر من جبهة، لكن المؤكد أن أحدا في اليمن لا يستطيع أن يدير البلد بمفرده والأكثر من هذا أن أحدا لا يستطيع أن يقضي على الآخرين ويتحكم في البلد بالوسائل الحربية والعسكرية، فالحروب مهما كانت عائداتها لم تكن على مدى التاريخ إلا قتلا ودمارا ودماء وجراحا وتصدعات نفسية وفكرية وإنسانية واجتماعية وسياسية عصية على الترميم ولو على مدى عقود قد تطول.
أما قرارات مؤتمر الحوار الوطني التي يدعي الجميع أنه يعمل على تنفيذها فإن المتحاربين يسعون إلى إعاقتها أو على التحكم في تنفيذها في ضوء التغيير الذي يشهده ميزان القوى على الأرض.
* للشاعر العربي الفلسطيني محمود درويش
والبلادُ إذا ارتفعت أَقفرت