أحدث قرار الرئيس اليمني، تكليف مدير مكتبه الدكتور أحمد عوض بن مبارك، بتشكيل الحكومة الجديدة، وفق ما نص عليه اتفاق السلم والشراكة الوطنية الموقع في 21 سبتمبر/ أيلول الماضي، ردة فعل غير متوقعة من جانب الحوثيين، الذين أعلنوا رفضهم للقرار، واعتبروه متناقضاً مع مبادئ الشراكة الوطنية، وهو موقف ربما يزعج الرئيس الذي يدرك جيداً أن بن مبارك يحتفظ بعلاقة جيدة مع الحوثيين.
إن الرفض الحوثي لقرار الرئيس، ترافق مع تحفظ على القرار ذاته من المؤتمر الشعبي العام، وهو حزب الرئيس هادي أيضاً، والذي أعلن على لسان المتحدث باسمه، عبده محمد الجندي تحفظه على قرار تكليف بن مبارك، على نحو أظهر صنعاء عاصمة سياسية محفوفة بالمخاطر، ومثقلة بأعباء تأثير محيطها القبلي المستنفر وغير المؤتلف مع الحكام القادمين من خارج العاصمة.
لقد كشفت تجربة حكم الرئيس عبد ربه منصور هادي لليمن، منذ الإطاحة بالرئيس السابق الشمالي، علي عبد الله صالح عام 2011، عن حقيقة مرة وهو أن المحيط القبلي للعاصمة صنعاء، معظمه لا يتقبل وجود رئيس من خارج البيئة القبلية ذاتها.
ولأن الرئيس هادي قادم من محافظة أبين، في أقصى الجنوب، كان سهلاً على القوى التي انخرطت في مهمة التحضير للثورة المضادة، أن تستميل إليها معظم القبائل المحيطة بصنعاء، وقد رأينا كيف أنها كانت جزءاً من مهمة حصار وإسقاط صنعاء في 21 سبتمبر، التي ساهمت في إنجاح الثورة المضادة، وفتحت المجال واسعاً أمام احتمالات عديدة بشأن مستقبل اليمن.
أقول ذلك رغم يقيني أن الثورة المضادة، كانت تحظى بدعم من أطراف عديدة داخلية وخارجية، من بينها سلطة النظام الانتقالي نفسها، ولم تكن شأناً شمالياً أو هدفاً قبلياً ومذهبياً محضاً.
ولكن علينا أن ندرك أن خطة تصفية قوى الإسلام السياسي، ما كان لها أن تنجح لولا أنها تحقق هدفاً أصيلاً وهو ضمان الهيمنة المطلقة للمذهب الزيدي، الذي أخذه الحوثيون بعيداً باتجاه إيران، الأمر الذي فتح المجال لحالة غير مسبوقة من الاستئصال الطائفي الذي هدد فكرة العيش المشترك لأبناء اليمن في عاصمتهم، وبرزت معه الحاجة إلى التفكير بجدية في نقل العاصمة إلى عدن المستعمرة البريطانية السابقة، ومدينة الميناء الأشهر في الجزيرة العربية والمنطقة، حيث تأسست أحدث وأكثر مدن الجزيرة والخليج تطوراً حتى أواخر ستينيات القرن الماضي.
لقد استبقت النخبة الشمالية، فكرة نقل العاصمة إلى عدن، بالترويج لقصة المؤامرة التي يقودها هادي لانفصال الجنوب، وكيف أنه يخطط إلى إغراق صنعاء في حرب مستعرة، ينتقل بعدها إلى عدن لتأسيس الدولة الجنوبية. وأنا هنا لست بصدد الدفاع عن نوايا الرئيس هادي، ولا أستبعد أن يلجأ إلى مثل هذا الخيار، ولكنني أرى في إطلاق هذه التكهنات المبكرة، وسيلة يمكن أن تقطع الطريق على الرئيس هادي وتمنعه من التفكير حتى من الانتقال إلى عدن، لا من أجل إعلان الانفصال ولكن لإدارة الدولة من هناك، والمحافظة على الوحدة اليمنية.
إن عدن التي تعتبر بموجب اتفاق إعلان الوحدة العاصمة الشتوية والعاصمة الاقتصادية والتجارية لليمن الموحد، تمثل اليوم أحد المداخل الأساسية لحل الأزمة السياسية التي تعصف باليمن وتأخذ طابعاً مناطقياً ومذهبياً، محركه الأساس النشاط المسلح للجماعة الحوثية المرتبطة بإيران، والحراك الجنوبي السلمي والمسلح الذي يسعى إلى الانفصال، ويرتبط مع أكثر من طرف إقليمي، ويتعامل مع الشمال باعتباره دولة محتلة للجنوب، بالإضافة إلى نشاط تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
لا يتأسس هذا الطرح على موقف سلبي من صنعاء، التي تمثل أم مدائن اليمن، وإحدى أقدم مدن العالم، ولكنه يتأسس على عوامل موضوعية، أهمها العامل الاجتماعي والإرث التاريخي، الذي ينضح بالعلاقة المتوترة بين صنعاء ومحيطها القبلي، الذي لا يرى في المدينة إلا أنها سوقاً محتملاً للنهب والسلب، عندما يأذن الإمام أو الحاكم في سياق الصراع المستمر على السلطة.
ما كان المرء ليتصور أن تُحاصر صنعاء وتتعرض للنهب والسلب، في القرن الـ 21، لولا هذا العامل الاجتماعي والتاريخي، الذي لم يُبق لنا أملاً في صنعاء عاصمة لكل اليمنيين وليس لبعضهم، وبيئة آمنة للعيش المشترك وللتنوع والتعدد السياسي والمذهبي، الذي سقط سقوطاً مريعاً يوم 21 سبتمبر 2014.
تتحدث الأنباء اليوم عن توسع حوثي يستهدف السيطرة على الممرات المائية، في سياق مشروع إيراني للهيمنة الإقليمية، وهذا الأمر يجب أن يكون محفزاً لأصحاب القرار السياسي للإسراع في اتخاذ قرار نقل العاصمة، ولو بشكل مؤقت من صنعاء إلى عدن، التي تمثل مدينة ميناء ونقطة استراتيجية مهمة في خط الملاحة الدولية، وهذا سيضفي على العقيدة السياسية لليمن الموحد، بعدها البحري، وهو بعد غاب عن العقيدة السياسية لليمن الموحد.
هذا نلحظه في مؤشرات عديدة أهمها: عدم الاهتمام بالموانئ، وبالقوات البحرية، وبالثروة السمكية، وبعدم وجود توجه حقيقي لتطوير المناطق الساحلية، وتنميتها اقتصادياً.
يقول أحد المستثمرين البارزين في مجال التطوير العقاري: في عدن تتوفر فرصة مهمة لبناء عاصمة سياسية عصرية ومتطورة ومزدهرة، بعكس صنعاء التي أصبحت مكتظة أكثر من اللازم، وتتطلب مليارات عديدة لإعادة تأهيل بنيتها الحضرية، في حين تغيب أي فرصة للتوسع في المدينة، في ظل الإشكالية الجوهرية المزمنة والمتمثلة في شحة المياه.
تتميز عدن بكونها بيئة محفزة على العيش في ظل احترام القانون، والالتزام بالتعليمات، وهو أمر نفتقده في صنعاء، وهذا بالتحديد يمكن أن يُعيد تأهيل البيئة الاجتماعية والسياسية في اليمن، وحملها على احترام القانون، خصوصاً وأن مدينة عدن لا يمكن أن نشهد فيها ذلك التمظهر بالقوة وبالسلاح الذي نشهده في صنعاء، حيث تتماها مع ثقافة مواتية لهذا النوع من السلوك.
قد يكون قرار نقل العاصمة السياسية من صنعاء إلى عدن في هذا الظرف الصعب، عملية إنقاذ لليمن ولوحدته ولحاضره ومستقبله، فهل نشهد مثل هذا القرار..