انها الروح، عندما تغادر الجسد. هذا ما يحدث بالضبط في تلك الرقعة الجغرافية الممتدة ما بين المائين، أو المساحة التاريخية الممتدة على تضاريس أكثر من ألف وأربعمئة سنة.
ما يحدث في هذا الجسد الديموغرافي العربي اليوم، هو حالة أشبه ما تكون بمغادرة الروح للجسد، حيث تتحلل الأعضاء، وتتفكك المفاصل، وينهش الجغرافيا دود الخرائط، وتعبث بالديموغرافيا تقلبات التاريخ بالفتن ما ظهر منها وما بطن، على حد تعبير خطيب مسجد قديم.
كان الفيلسوف والشاعر الألماني غوته مفتونا بالشرق، لأنه رأى جسد الشرق مفعما بروحه، رأى الشرق العظيم الذي سرت فيه روح محمد فبعثت في خريطته حياة جديدة، جعلت التاريخ ينبثق من الجغرافيا، والحضارة الوسيطة تخرج من عباءة العرب الذين خرجوا من الخيمة إلى قصور بغداد، ومؤلفات الكندي وأنغام زرياب. لكن هذه الروح التي كانت مثار إعجاب غوته في «الديوان الشرقي»، هذه الروح تتسرب من الجسد الثقافي والاجتماعي عبر ثقوب من البلبلة الفكرية والاضطراب الطائفي والتخبط الوجداني لشعوب المنطقة. الروح التي كانت مثار إعجاب العالم تتسرب على وقع ضربات «داعش» والحشد الشعبي وكل العصابات التي تسعى لأن تجعل المليشيات محل الدولة، وأن تضع التاريخ مكان الجغرافيا.
وعلى ذكر التاريخ، فإن إحدى أهم مشاكل هذه الرقعة الجغرافية أنها مبتلاة بسيطرة التاريخ على خرائطها. إنها أسيرة تاريخها أكثر من أي شيء آخر. تحس بالضياع إذا ما حدثها أحد عن ضرورة مغادرة خيمة التاريخ إلى فضاء العصر، التاريخ أبوها وأمها، وهي كطفل لم يبلغ سن الرشد بعد، ولا يستطيع الانفصال عن والديه ليواجه مسؤوليات الحياة بعيدا عن الاعتماد عليهما، ولذا تخرج «القاعدة» و»داعش» والحشد الشعبي والحوثيون من عباءة التاريخ، لتسيطر على الجغرافيا مدفوعة بدوافع طائفية تفتت الخريطة الواحدة بواسطة حدودها التي تعمل أثرها في جسد هذه الخريطة المكلومة.
ما يحدث اليوم ليس مجرد انهيار الأنظمة، ما يحدث أكبر من انهيار الدول، إنه تحلل المجتمع بفعل جرثومة الطائفية، والعنف الديني، والانغلاق الفكري، والجفاف الروحي، والتراجع المعرفي لدى شعوب المنطقة.
في 2011 اندلعت موجة من الثورات التي تشكلت أمشاجها على مديات بعيدة، لكن هذه الثورات التي طالبت برحيل أو إسقاط الأنظمة لم تستطع بناء أنظمة جديدة بفعل عوامل متشابكة، منها ما يرجع إلى عفوية تلك الثورات وجماهيريتها، ومنها ما يرجع إلى طبيعة تلك الأنظمة وتعقيداتها.
رحلت الأنظمة ورحلت معها الدول، وبدأت مرحلة انهيار المجتمعات، وهذا أخطر ما في الأمر. عندما يرحل النظام وتظل الدولة، يهون الأمر، وعندما ترحل الدولة ويظل المجتمع تكون الكارثة أخف، لكن رحيل المجتمع هو الكارثة الحقيقية التي لم نصل إليها بعد، وإن كانت نذرها تلوح في الأفق ما لم يتم تدارك الأمر.
لم يعد السجال اليوم عربيا غربيا، أو عربيا إسرائيليا، أو حتى عربيا إيرانيا. أصبح الصراع عربيا عربيا، بل وأشد: أصبح سوريا سوريا، ويمنيا يمنيا، وليبيا ليبيا وعراقيا عراقيا، بين فريقين: واحد إرهابي، والآخر يحارب الإرهاب.
لم نعد مجتمعا واحدا، بل أصبحنا طائفتين تتناحران على أيام التاريخ وأطلال الجغرافيا.
كان ابن خلدون يتحدث عن أطوار حياة الأمم، ومراحل النمو والشباب والشيخوخة التي تمر بها الحضارات، إلى أن تشارف الموت أو تموت.
عوامل موت أو حياة أية أمة تكمن داخلها، وكما تموت الأشجار بذهاب الماء من نسغها تتهاوى البلدان والشعوب بذهاب روحها، التي تتكون من منظومتها القيمية والوجدانية. إن ما يحدث من تخريب للأوطان، لا يساوي شيئا يذكر من عمليات تخريب الإنسان في هذا الجزء من العالم.
تحدث القرآن يوما عن نظرية بالغة الدقة في «التخريب الذاتي» والانهيار عن طريق «التداعي الداخلي»، التي تشير إلى تخريب القوم «بيوتهم بأيديهم»، وهو أشد أنواع التخريب، ويتحدث علم الاجتماع عن «عوامل التآكل الذاتي» داخل المجتمعات، وهي عملية نرى فصولها تتوالى اليوم أمام الأنظار. لكن العرب لن يموتوا، تعودوا على أن يعودوا من مشارف الموت، أو بالأحرى يخرجوا من بين الرماد. العرب لن يموتوا وكل ما في الأمر أن فترة المرض تطول أو تقصر لتأتي بعده عافية الروح في هذه المنطقة.
وإذا كانت عوامل الانهيار تكمن في الداخل فإن عوامل البناء تكمن في الحيز نفسه الذي تكمن فيه عوامل الانهيار. ولذا فإن العرب اليوم وهم يحاولون الخروج من «مرحلة التيه» هذه مطالبون بامتلاك الشجاعة للاعتراف بالأخطاء الكارثية، الكامنة في المنظومات الثقافية والتعليمية والدينية والاجتماعية والسياسية، وأولها أخطاء أنظمة الاستبداد التي فشلت في إنجاز عملية التحول الاجتماعي والحضاري لشعوبها، وأخفقت في تطبيق شعارات مرحلة النهضة والتحرر من الاستعمار، تلك الأنظمة التي راكمت الكثير من الفشل إلى أن أوصلت مجتمعاتها إلى حالة الاحتقان الداخلي الذي انفجر في بعض الدول نهاية 2010 وبداية 2011، ثم تأتي ضرورة اعتراف ثوار 2011 بأنهم إذ نجحوا في ترحيل رؤوس الأنظمة إلا أنهم فشلوا في إسقاط تلك الأنظمة، كما فشلوا في إيجاد البديل المناسب لتلك الأنظمة، التي لم ترحل ولم تعد باقية كما هي في السلطة، ما مكن لعوامل الفوضى والاضطرابات الأمنية والحرب والشروخ الطائفية العميقة في بنية مجتمعات هذه المنطقة.
وبعد مرحلة الاعتراف بالأخطاء المتراكمة، تأتي مرحلة تصحيح هذه الأخطاء، التي تبدأ بضرورة إجراء مصالحات تاريخية حقيقية بين الدولة والمجتمع، أو بين الدولة العميقة والدولة السطحية، بين النظام والثوار، أو بين مفاهيم ما قبل 2011 ومفاهيم ما بعد هذا التاريخ. وكل ذلك لن يكون إلا بالاحتماء بالداخل والانفتاح على مشاكله وإمكاناته، آلامه وآماله، تطلعاته وإخفاقاته، مع التركيز على ردم الهوة، وبلسمة الجراح المفتوحة، والحرص على تجاوز مرحلة التوترات التي أفرزت قاموسها السياسي ومفرداتها الخطابية التي تدور منذ سبع سنوات حول مفاهيم «الوطنية والتخوين، والعمالة والارتزاق والإرهاب والتكفير والنواصب والروافض، والعرب والأعراب»، وغيرها من المفردات التي تنفتح على دلالات سلبية في لغة الخطاب السياسي والديني السائدة اليوم.
تعلمنا الأديان أن الإنسان لا يموت، ولكنه ينتقل من حياة دنيا إلى حياة عليا، حسب كفاحه المادي ونضاله الروحي، وحسب استعداداته الوجدانية على تلقي الفيوضات، وفهم الإشارات، وهذه المسألة الدينية تعطينا الأمل بأن الشعوب كذلك لا تموت، ولكنها تنتقل من حياة إلى حياة، ومن طور حضاري إلى آخر حسب قدراتها الفكرية ونضجها المجتمعي، وهو ما يعني أن شعوب المنطقة يمكن أن تتجاوز زمن المحنة ذلك، بكثير من التجارب المتراكمة التي مرت بها خلال سبع سنوات كفيلة بأن تعلمنا دروس سبعين سنة.
وقياسا على المثل القائل إن «الضربة التي لا تميتك تقويك»، فإن ما جرى يمكن أن ينظر إليه على أساس أنه ضريبة تجاوز هذا المنعطف الحضاري الذي سيفضي إلى مرحلة حتمية، تعيد لهذه المنطقة روحها المتسربة، حيث تتم عملية مصالحة استراتيجية بين النظام والشعب، والتي ستكون مؤشرا على المصالحة العميقة بين التاريخ والجغــــــرافيا في بلاد ما بين المائين.